عقيدة الرسول والصحابة والأئمة والعامة والأطفال والعجائز
اقتباس :
كتبه: أبو القاسم المقدسي
من أخص خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة أنها –كالقرآن- ميسرة للفهم سلسة للذكر؛ لا تكلفَ فيها ولا إغماض، مسلّمةٌ من التناقض، لا شوبَ فيها يعكر على صفاء رونقها، ولا شيةَ تعتريها تكدر على نقاء مشربها..وها هنا عرض مقتضب في بيان ذلك:
1- هي باختصار مستفادة من نصوص القرآن والسنة وظواهرهما رأساً، وملخص هذه العقيدة في قاعدة عريضة: تصديق ما أخبر به الله ورسله، وتطبيق ما أمروا به {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام : 115]، وإذن أخبار الله كلها صدق وأحكامه كلها عدل، فيستوي ما ينسبه الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة ونحوهما، مع ما ينسبه لنفسه من العين واليد ونحوهما من جهة وجوب الإيمان بأن هذه صفات، وصف الله بها نفسه بنفسه أو عن طريق رسوله، وهي ذات معان وكيفيات؛ بمثل ما يستوي أمر الله إيانا بالصلاة مع أمره بالزكاة من حيث إن العمل بالجميع واجب {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة : 85]
2- ومن طريقة الله تعالى في التعريف بنفسه المقدسة: التفصيل في مقام الإثبات والإجمال في مقام النفي، ومهما قلبت في صفحات الكتاب العزيز فلن تخلو من ذكر صفةٍ لله إما بكونها متضمَّنة في اسم له -تقدس وتبارك-، وإما بورودها صفة مجردة على هيئة المصدر، أو في فعل من أفعاله. بخلاف معرض النفي فقد جاء مجملاً كما في قوله تعالى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص : 4]، وقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهذه هي الطريقة المتناسبة عقلاً وفطرةً وعُرفاً عند الناس كافة، فإنك لو قصدت إلى معظّم في قومه وأردت مدحه فقلت: "لست بحقير ولا شرير ولا أبله ولا معتوه ولا فاسق ولا فاجر ..." إلخ.. فلا ترتقب أن يشكرك على ثنائك، بل تربص داهية تحل بك. وهذا النفي المفصل المذموم هو من قبيل ما يصنعه المتكلمون مع ملك الملوك سبحانه وتعالى! والله المستعان. ولهذا حين أراد الحافظ الذهبي وغيره مدح الإمام ابن تيمية بكلمة موجزة بأسلوب النفي، عمد إلى الإجمال فقال: "ما رأت عيناي مثله".
3- وليس للعقل في استمداد المعارف الشرعية من سلطانٌ على النقل، لاسيما في باب الغيبيات، وأخصّها ما كان متعلقا بالرب العظيم سبحانه وتعالى {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}؟ [البقرة : 80] .. لا لأن العقول تتفاوت في مدركاتها وتقديراتها فحسب؛ بل لأن وظيفة العقل التي أرادها الله منه كونه أداة ًللفهم، ووسيلةً للتدبر؛ ولأن العقل يمتنع أن يكون قاضياً على ما غُيّب عنه تغييبا خرج به عن دائرة فلكه، بحيث لم يكن للبحث التجريبي فيه مدخل {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] .. كما العين سواء بسواء لا ترى ما دق، ولا ما بعد، فضلاً عما توارى بالحجاب، فإن أبت: عمِيت.
4- وإنما ادعينا أنها عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله اختاره جامعاً بين أوصاف الأمانة، والصدق، والفصاحة، والبيان، والحرص على هداية الناس، والرأفة بالمؤمنين، وغير ذلك مما يمتنع معه أن يستعمل عبارات موهمة غير مرادة الظاهر على ما يزعمه المتكلمون من أشعرية وغيرهم. (ما تركت من خير يقربكم من الله ويباعدكم عن النار إلا دللتكم عليه) أخرجه الشافعي وعبد الرزاق والطبراني وغيرهم بألفاظ متقاربة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأصح منه ما أخرجه الإمام مسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم...“ الحديث. ثم مع تقرير هذا الأصل العظيم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر عامة ما نسميه: اعتقاد السلف، من ذلك مثلا: إقراره الجارية على إشارتها للرب العلي سبحانه، وأنه في السماء حين سألها "أين الله؟"، كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي أخرجه الإمام مسلم. وهو ما يستقبحه المتكلمون جداً لحد الحكم بتكفير هذا القول ..!!
5- وأما كونها عقيدة الصحابة فلِما استفاض عنهم من سؤالهم الرسول عما أشكل عليهم؛ من ذلك مثلا: ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام : 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "أينا لا يظلم نفسه؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13]“. ولو كانت هذه الألفاظ توهم التشبيه لألفيت البِدار منهم لسؤال نبيهم كما هو ديدنهم في كل شؤون دينهم، بل لكانت هذه فرصة ثمينة للمشركين للتشكيك في رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم-كما هي عادتهم. فلما لم يستشكل أحد ورود هذه الصفات في حق الله جل ثناؤه، علمنا أن ما ننسبه لهم من عقيدة السلف صحيح بلا إشكال. فإن قيل: "إنما لم يستشكلوه لعلمهم أن اليد تعني القدرة وأن الحب يعني إرادة الثواب... إلخ على ما يقتضيه اللسان العربي..؟
فالجواب من وجوه : أ- منها أنه تقرر في العربية أن اليد ليست هي القدرة، وهذا من الوضوح بمكان عتيد بحيث لا يتطلب فيه نقل إجماع. ب- فإذا استعملت اليد في سياق الدلالة على النعمة أو القدرة، فهذا الذي فهم من السياق الدلالي لا يعود بالنقض على صحة إثبات اليد ونحوها، وإنما عبرت عنها العرب في هذه الدلالات؛ لأن اليد بها تؤدى النعمة، وبها يبطش ويقتَدر، فهو من باب التعبير عن المسبب بالسبب، كتسميتهم المطر: سماء، ومنه قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم*** رعيناه وإن كانوا غضابا
جـ- ثم في نفي حقيقة اليد جراءة على الله تعالى شنيعة بغير مسوغ سوى التحكم العقلي المبني على الذائقة الخاصة بمن نفاها، وليعتبر الأشعرية الموقف بين يدي الله تعالى، فإنه سبحانه إذا سأل السلفي: لم نسبت اليد إلي؟ فجوابه حاضر: وجدت ذلك في كتابك يارب فأثبتها..فإن سئل الأشعري: لماذا نفيت عني اليد؟ فما عساه أن يقول؟! أنزهك يارب؟ أم عقلي قضى به؟ إن قال شيئا من ذلك فقد اعتذر بما هو أقبح من الذنب؛ لأن مقتضاه أنه أَغْيَر على الله -تبارك اسمه- من الله نفسه صاحب الشأن. على أن هذا قول يناقض ما قعدوه في مسألة التحسين والتقبيح. د- فإن سلمنا تنزلاً بصحة ما ادعاه المتكلمون في بعض المواضع، فما هم قائلون في مثل قول الله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص : 75]؟ حيث قطعت تثنية اليد ها هنا مضافةً للرب -سبحانه- الطريق عليهم؛ لأنه على تحريفهم يكون لله قدرتان أو قوتان! ولا يقول به عاقل.
ووجه آخر لدعوانا نسبة ذلك للصحابة أنه إجماع منقول عن القرون الفاضلة الممدوحة، وهم حدثاء عهد بالرعيل الأول، نقله غير واحد كالإمام الترمذي، والحافظ ابن عبد البر، و ابن خزيمة وغيرهم .. قال الإمام الحافظ الترمذي في جامعه: «وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه. وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده. وقالوا: إن معنى اليد ههنا القوة.» فتأمل كيف مايز بين أهل العلم والجهمية، وقابلوا بينهما مقابلة الحق للباطل. ولم ينقل عن كبار مفسري الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما حرفٌ واحد في تحريف صفة من صفات الله تعالى.
6- على أن فريقا من المتكلمين يتكايس فيقول: "قد فهمنا أن الاستواء على العرش معناه العلو والارتفاع، وأن الكلام بصوت وحرف، فما المعنى المفهوم من اليد لله عز وجل وأمثالها؟ وبعض إخواننا من أهل السنة ممن لم يحقق المسألة جيداً قد يضطرب عند هذه الشبهة والجواب عنها ميسور ولله الحمد فلو قيل للسائل : صف لنا زيداً من الناس (وهو لم يره قط) فما الجواب؟ سيقول لا أعلم صفته؛ فهذا لا يعني إنكار وجوده ..هذا حال المخلوق القابل أن يُقاس عليه بأن يُقال: "فلان يشبه فلاناً"، فما ظنك بخالق السماوات والأرض الغائب عن أعيننا، الممتنع أن يقاس عليه؟! فالمعنى المفهوم من صفة اليد: أنها صفة ذات تليق بكمال الله -جل ثناؤه-، يخلق بها، ويكتب، ويبسط، ويقبض. وقد جهلنا صفتها لأننا لم نرها ولم نر ما يصح أن تقاس عليه فنشبهها به {ليس كمثله شيء}..هكذا.. وبهذا اليسر!
7- وأما نسبة الاعتقاد السني للأطفال والعجائز، فلأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو مشهور مشاهد كما في الداعي الفطري للتوجه نحو العلو حال الدعاء، وأقر به بعض كبار المتكلمين لدى أوبته لعقيدة السلف كقول أبي المعالي الجويني: "وإنى أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور"، وليس معنى هذا التسوية بين إيمان الأئمة وإيمان العجائز والسذج، فقد جمع العلماء إلى نور الفطرة نور العلم {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور : 35].
عقيدة الرسول والصحابة والأئمة والعامة والأطفال والعجائز